الملخص
شعر الشكوى شعر وجداني مرتبط بمكنون النفس وآلامها ومعاناتها وقد رسم لنا صورًا جليّة مثّلَت شرائح المجتمع المسلم في العصر العباسي, وهو شعر صادق لم ينظمه أصحابه رغبة في منصب, أو تزلّفًا لحاكم, إنما كان نبض فؤاد, واضطراب جوانح, كشف كثيرًا من الدلالات النفسية والاجتماعية والسياسية, وألقى الضوء على الواقع الذي عاشته أمة الإسلام حينًا من الدهر. وقد مهدت لهذا البحث بحديث عن مفهوم الشكوى في اللغة, أما التعريف الاصطلاحي فلم يحظ باهتمام العلماء واللغويين, وإنما اجتهد الباحثون المحدثون بوضع تعريفات دون الاتفاق على أُطرٍ محدّدة, وتناولت في التمهيد دوافع الشكوى مشيرة إلى طبيعة النفس البشرية, وجزعها من الضرِّ, وحاجة الإنسان للشكوى تنفيسًا وإفراغًا لانفعالاته المشحونة, وهذه الدوافع مختلفة فهناك دوافع ذاتية تعكس تصورات الشاعر وهمومه الخاصة, وقد تكون الدوافع اجتماعية ناتجة عن حياة الشاعر في مجتمع لا يسلم من منغصات تنال منه حتى تهيمن عليه, وتدفعه إلى الشكوى, وقد يعيش الشاعر في محيط تغلب عليه التقلُّبات السياسية, وما يعقبها من أحوال يضطرب فيها حبل الأمن, وتنداح مشاهد العنف, فيجأر الشعراء بالشكوى, ويطلقون صرخاتهم تحذيرًا واسترحامًا. وفي الفصل الأول من الباب الأول درست المجالات الذاتية وبدأته بتناول الشكوى من الدهر, حيث اتّضح أنّ الشعراء في العصر العباسي الأول ساروا على نهج سابقيهم الذين أكثروا الشكاية من الدهر وحوادثه التي أوهنت قواهم, وثلَّمت حدودهم فهاموا في الأرجاء بحثًا عن حياةٍ أفضل, ونسبوا للدهر كلّ بلاءٍ وسوء متناسين حكم الشرع في النهي عن سبِّ الدهر. وفي المبحث الثاني درست الشكوى من المرض والآفات وبدأته بالمرض وآلام الشيخوخة والعجز ثم العمى, والشيب ذاك الضيف الثقيل الذي ارتبط قدومه برحيل الشباب, وكان مؤشرًا لقرب المنيَّة, فلا عجب أن يثير فزع الشعراء خاصة أنه باعث صدود الغواني وإعراضهن فكانت محاولاتهم التخلص منه بيد أنها باءت جميعها بالفشل. ودرست آفة الموت تلك القوة التي تنهار أمامها كلُّ القوى, فموت الأصحاب أثار قرائح الشعراء, وموت الأبناء فتّ أكباد الآباء, وكذلك موت القادة والولاة والأجواد الذين امتلكوا قلوب الشعراء وفتّقوا اللها باللهى, فكان موتهم مصابًا جللًا على الشعراء وهاطـلًا هتان على الأشعار, إذ صوّر أولئك الشعراء أحاسيسهم وانفعالاتهم وبكوا وأبكوا.