الإمام القفال المروزي وفقهه في العبادات والمعاملات :
فأحمد الله سبحانه وتعالى على ما يسّر لي من كتابة ما تيسّر لي من الوقوف عليه من مسائل هذه الرّسالة التّي وضعتها في الخطّة، ومكّنني من دراسة ما يمكن دراسته منها على وفق المنهج المقترح من قبل عمادة الدّراسات العليا. ويؤخذ ممّا اشتملت عليه الرّسالة من التّمهيد إلى الأبواب المشتملة على آراء القفّال المروزيّ الفقهيّة ما يلي: 1-إنّ القفّال المروزيّ رحمه الله تعالى لم يكن ممّن طلب العلم الشّرعيّ في ابتداء شبابه، وإنّما طلبه بعد ذهاب ثلث عمره وهو لا يعرف من اللّغة العربيّة ما يفرّف به بين تاء (اختصرتُ) المضمومة وتاء (اختصرتَ) المفتوحة. 2-إنّه صار بعد ذلك من عظماء أئمّة الشّافعيّة الذّين عُرفوا بالحديث والفقه في الدّين، وأثروا المذهب الشّافعيّ بالاستنباط والتّخريج والتّفريع والاجتهاد، حيث كان من أصحاب الوجوه في المذهب وصاحب طريقة خلافيّة تُعتبر نصف المذهب الشّافعيّ، وكان شيخ أئمّة المراوزة الذّين عرفنا مكانتهم في مطلب تلاميذه. 3-إنّه كان معروفاً بالزّهد والورع وعدم التّزلّف إلى الحكّام، وكان شجاعاً وصريحاً في قول الحقّ. ويظهر أثر ذلك كلّه في طريقة تعامله مع الحكّام وأعوانهم وطريقة تعامل أولئك معه، فقد كانوا يحترمونه هو وأصحابه، ولا يتعرّضون للمحتسبين منهم بسوء، ويقبلون شفاعتهم للضعفاء من النّاس، ويستحيون منهم ويقولون: يحقّ لهم الاحتساب، لأنّهم لم يكونوا يأخذون شيئاً من أموال الدّولة. 4-إنّ طبيعة خلافه مع غيره تدلّ على أنّه كان متورّعاً في أخذ الأحكام، ممّا يجعلك تعتقد أنّه كان يطلب الحقّ ويأخذ بما يعتقد صوابه دون التفات إلى من يخالفهم إذا لم يكن معهم دليل نقليّ، كما كان متورّعاً في إفتائه والنّصح للمستفتي ومراعاة اعتقاده فيما يسيغ فيه الخلاف. أمّا في أخذ الأحكام: -فإنّ المسائل التّي خالف فيها الشّافعيّة أو جمهورهم غالبها فروع اجتهاديّة غير مذكور لمعظمها أدّلة نقليّة، وإنّما يرجع القائلون برأيٍ فيها إلى أمورٍ محسوسة لهم يصحّحون المسألة بناء على ما يقتنعون بصحّته منها. وما ذُكر لبعضها من الأدلّة فقد اعتُمد أحياناً على مفهوم متّسم ببعض البعد، أوّ وُجّه بتوجيهات في بعضها تكلّف، ولذا تجد المحقّقين ومنهم النّوويّ يضعّفون أحياناً توجيهات الفريقين في المسألة، وعليه فإنّه لم يخالفهم إلاّ فيما يسيغ فيه الخلاف من المسائل. -وتجده يخالف سائر الخراسانيّين من أصحابه، ويوافق العراقيّين في رأيهم في المسألة، ويخالف كل الشّافعيّة فيما يقولونه، فينفي وجود خلاف في مسائل يقول غيره من الشّافعيّة إنّها خلافيّة، ويحمل ما يعتبرونه اختلاف أقوالٍ على أحوالٍ، ويُنـزّلها عليها، ويفصّل القول فيها، ويثبت في بعضها خلافاً ينفونه، ولذا يصفون أحياناً مخالفته لهم بالشّذوذ عن المذهب وعن الشّافعيّة، ويدعون إلى عدم الاغترار بقوله، وعدم جواز القول بمثل ما قال به. وأمّا في الإفتاء والتّعليم فلم يكن متعصّباً لرأيه ولا يدعو غيره إليه، وكان يأتيه المستفتي فيفتيه بغير ما يراه، وإذا سئل عن ذلك قال: إنّه يسألني عن المذهب لا عن اعتقادي. 5-إنّ كثيراً من مسائل المعاملات وبعضاً من مسائل أبواب الطّهارة والعبادات التّي نُقل للقفّال فيها رأيٌ إنّما هي فروع دقيقة مختلف فيها تردّد العلماء عند نقل مذاهب الأئمّة أو الاجتهاد في حكمها، كما يكون ذكر بعضها في حدودٍ ضيّقةٍ جدّاً بحيث لا يتجاوز الكلام عليها عدّة أسطر أو كلمات وبدون إشارة إلى المختلفين فيها وأدلّتهم، أو تكون أدلّة بعضها عقليّة يتساوى نظر النّاظر في صحّتها أحياناً، كما لا يشار إلى بعضها إلاّ في كتاب أو في كتابين من كتب الفقه الخلافيّة. وهذا يجعل السّير على منهج الدّراسة المقترح من قبل عمادة الدّراسات العليا متعذّراً في بعضها. وهي بهذا تختلف عن أمّهات المسائل التّي يمكن الوقوف عليها في معظم كتب الفقه والاطّلاع على ما فيها من خلاف العلماء وأدلّتهم وتوجيهاتهم، ويمكن بذلك دراستها دراسة مقارنة يتوصّل من خلالها إلى الرّاجح من الخلاف.