البديع بين أبي الإصبع العدواني المصري والخطيب القزويني / عواطف صالح سالم الحربي ؛ إشراف محمد إبراهيم شادي.
استقلال علم البديع كعلمٍ منفرد بعد أن كان مفهوماً عامّاً يتردّد ، دالاًّ فقط على الحسن المستحدث من الشعر أو النثر ، ورغم ما يُحفظ لبدر الدين بن مالك (ت 686هـ) بذرة ذلك الاستقلال ، وما يحفظ للخطيب القزويني (ت 739هـ) رعاية تلك البذرة حتى كبرت وتشعبت وأينعت ، وآتت أكلها ، فإنّ هذا العلم مع هذا التحديد فإنّه ما يزال يحتفظ بالمفهوم العام له عند أصحاب المدرسة الأدبية في الدراسة البلاغية ، كابن الأثير (ت 637هـ) ، والعلوي (ت 705هـ) ، وابن حجة الحموي (ت 837هـ) ، وابن أبي الإصبع المصري . وعلم البلاغة بعامة ، والبديع خاصة تلقّفته بالدراسة والبحث أيدي علماء شتى مختلفي المذاهب والمناهج والاتجاهات ، وهذه طبيعة بشرية في الاختلاف والتباين بحسب الظروف والنشأة ، وبحسب الطباع والميول أو الاتّجاهات . وبالنظر إلى هذا المحور ، فإنّ أيّ دارسٍ يجد نفسه أمام مدرستين مختلفتين عريقتين في تناول هذا العِلْم ، بما وهبها الله سبحانه من أدوات ، وبما صقل فيها من حنكة وقدرة وحكمة وفهم للنصوص وقدرة على سبك وإحكام عرضها بالصورة اللائقة بها ، التي تكشف بوضوح عن جوانب أي لونٍ بديعي أو بلاغي ، وإبراز محاسنه وتبيان حقيقته . هاتان المدرستان هما : - مدرسة الأسلوب العلمي . - ومدرسة الأسلوب الأدبي . فالأولى تتّجه بالبلاغة اتجاهاً تغلب عليه العقلية المنطقية ، فتصوغها في أفكارٍ مجرّدة تنتظم قواعد وضوابط ، يغلب عليها تحديد العبارات وتحديد المصطلحات بدقّة ... وتمتاز بقلّة الشواهد الأدبية والصياغة العلمية في أسلوبٍ تقريري مباشر واضح أحياناً وغامض أحياناً أُخر ، بل يكتفي أصحاب هذا الاتجاه بالمثل في شرح القاعدة ، ويميلون في إثباتها إلى المنطق لا إلى الذوق الوجداني الأدبي والفني والنفسي ، إلا مَن ندر( )، وينتمي لهذه المدرسة كلّ من الرازي ، والسكاكي ، والخطيب ، والشُّـرّاح .. والمدرسة الثانية : تتّجه بالبلاغة اتجاهاً أدبياً وجدانياً ، وتصبغ كثيراً من موضوعاتها بصبغة أدبية لِما امتازوا به من أدبٍ غزيرٍ وذوقٍ سليم ، لا يعني رجالها بالتعريف ولا بالتقسيم المنطقي عنايتهم بإظهار أثر الصورة في تجسيم المعنى ، وغالباً ما يذكرون القاعدة في سطرٍ أو سطرين ، ثمّ يوجّهون جُلّ همّهم إلى تحليل النصوص واستعمال المقاييس الفنية في الحكم عليها ، ولذلك نجدها مرة تستطيع التعليل ، ومرة لا تستطيع ذلك ، وترجعه إلى الذوق والإحساس الفني ، ولم تكن أمثلتهم مقصورة على الجملة أو بيت الشعر ،