الحركة الأدبية في مجالس هارون الرشيد 170-193 هـ.
فقد شهدت بغداد عاصمة الخلافة العباسية حركة أدبية واسعة ؛ ساعد على ازدهارها ما تحلى به بعض الخلفاء والأمراء والوزراء – آنذاك – من علم وأدب وتشجيع لأهلهما ؛ حتى كاد مجلس الخليفة أن يستحيل منتدى أدبيًّا يرأسه الخليفة الأديب ؛ يستدر فيه قرائح فحول الشعراء والأدباء ؛ الذين وفدوا إليه من كل أصقاع دولته المترامية الأطراف ؛ مشتاقين إلى رأيه النقدي الحصيف ، وإلى تشجيعه وعطائه ؛ الذي لم يكن لتحده حدود سوى حدود الإعجاب ، ومدى ما في هذا الأدب من قيم موضوعية وفنية . ومجالس الخليفة العباسي هارون الرشيد ( 170 – 193 هـ ) كانت من أشهر مجالس الخلفاء العامرة بالعلم والفكر والأدب بعامة ، الحافلة بأروع ما في الأدب العربي من شعر ونثر بخاصة ؛ لذا فإني آثرت أن تكون موضوع أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه ؛ التي من خلالها ألبي رغبة ملحة في نفسي للتعرف - عن قرب - على هذا الخليفة الأديب ؛ الذي طالما ملأني بسيرته العظيمة ؛ إعجابًا بشخصه ، وشوقًا إلى مجالسته ومشاركة الأدباء من حوله ؛ ولو بطريق البحث الذي – وحده – يستطيع أن يتغلب على حدود الزمان والمكان ؛ فكان عنوانه : ( الحركة الأدبية في مجالس الرشيد ) ؛ موضوعًا أدرس فيه حياة الرشيد وأدبه ، وصلته بالأدباء من حوله ، وما زخرت به مجالسه من شعر ونثر في ذلك العصر الأدبي الزاهر ، وكان مما حداني إلى اختيار هذا الموضوع أسباب كثيرة منها : أولاً : شخصية الرشيد ، وروحه الأدبية الرفيعة ؛ التي جعلت مجالسه من أشهر الأندية الأدبية في عصره ، وأحفلها وأعظمها بثًّا لروح النشاط الأدبي فيمن حوله ؛ وذلك لما اتصفت به شخصيته الفذّة من ثقافة علمية وأدبية واسعة ، ورهافة حس وشعور ، وأريحية عربية أصيلة ، إلى جانب نشأته في طبقة مترفة ؛ حيث نشأ في قصر أبيه المهدي ؛ كما ينشأ الأمراء والمترفون آنذاك ؛ يُلتَمس لهم المؤدبون في صنوف العلم والأدب ؛ فكان قصر أبيه بيئة علمية وأدبية لها أثرها البليغ في تنشئة عقله ، وتكوين ثقافته ، وإنماء ذوقه الأدبي ؛ لتجعل منه أميرًا فريدًا ؛ يمتاز بسعة المعرفة ، وكثرة الرواية ، والبصر بصور الجمال الفني ، ولتثير فيه روح النهم لكل ما يغذي هذه النواحي فيه ؛ فكان الخليفةَ الرشيد ، والكريم الأريحي ، والأديب الذوّاقة . ولهذا التفّت حوله كوكبة من أشهر ما عرفت العربية من الأدباء رواةً ، وشعراء وخطباء ، وكتّابا ، ووعّاظا ، وما ذاك إلا لإدراك هؤلاء مكانة الكلمة الأديبة من نفسه وأثرها على مشاعره . ولم يقف الرشيد ليفتح أبواب مجالسه على مصاريعها لكل من أراد أن يسمعه شيئًا من أدبه فحسب ؛ بل راح يشارك جلساءه بما أتاحت له موهبته الأدبية من رائق شعره ، وبليغ نثره ، وجيد نقده . ثم إن الحديث عن شخصية الرشيد حديث ذو شجون ، والمصادر التاريخية والأدبية زاخرة بكل ما يتصل بشخصيته الأدبية ؛ مما يؤكد أهميتها وجدارتها بالبحث ؛ لإعطائها حقها من الدراسة ؛ بوصفها عاملاً رئيسًا من أهم العوامل التي أثرت في الحركة الأدبية في عصره ؛ فأثْرت ساحة الأدب العربي بكثير من عيون الشعر والنثر التي يشار إليها بالبنان ، وظلت سائرة على ألسنة الناس إلى الآن . ثانيًا : إن أدب هذه الفترة ( 170 – 193 هـ ) ، وهو أدب ثلاث وعشرين سنة ؛ مدة خلافة هارون الرشيد ؛ إنما هو خيار من خيار ؛ حيث العصر العباسي الذهبي ؛ عصر الازدهار الأدبي ؛ إذ أكب الشعراء والكتاب على العربية يتقنونها ، ويتمثلون ملكتها وسليقتها تمثلا دقيقا ؛ نافذين بذوقهم الأصيل المتحضر إلى أسلوب مصفى يميل حينا إلى الجزالة والرصانة ، وحينا إلى الرقة والعذوبة ، وإلى جانب ما هنالك من عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية ساعدت على ازدهار هذا الشعر وذلك النثر ؛ فإن تأثر الأدباء تأثرًا عميقا بالثقافات المترجمة مما أثار وأثرى عقولهم ونفوسهم بكثير من المعاني والخواطر التي لا تكاد تحصى ، وكان الرشيد أحد الخلفاء الذين برز دورهم في تشجيع حركة الترجمة والنقل ؛ فكان له الأثر الفاعل في ازدهارها وتنشيطها . والحق إن هذا العصر مع كثرة البحوث التي تناولته بالدراسة ؛ فإنه ما زال يحوي كنوزًا زاخرة بموضوعات ذات أهمية جليلة لم تدرس ؛ بسبب توجه كثير من الدارسين إلى دراسة شاعر ، أو ظاهرة أدبية ، أو غرض شعري ؛ غافلاً بعضهم - مثلاً - عن قيمة تلك المجالس الأدبية وما تحويه من أرض خصبة للدراسة والبحث ؛ لا تقل أهمية عن غيرها ؛ بل ربما كانت لها نكهة طريفة ومفيدة في عالم الدراسات الأدبية ؛ ولذا فإني خلال هذا البحث الذي يلم شتات هذا الأدب الجيد المتصل بهذه الشخصية التاريخية والأدبية الرائعة ، ويدرسه ؛ أجدني أشارك من سبقني من بعض الأساتذة والباحثين والدارسين الذين عنوا بمثل هذا النوع من الدراسات الشاملة ، والتي لا تخلو من الإمتاع كـ : شعراء البلاط الأموي للدكتور عمر فروخ ، والشعر في ظلال البرامكة لعصمة عبد الله غوشة ، والاتجاهات الأدبية في قصر المأمون للدكتور سامي عابدين ، والشعر في رحاب سيف الدولة الحمداني للدكتور سعود ابن محمود عبد الجابر ، والشعر في ظل سيف الدولة للدكتور درويش الجندي ، والشعر في ظل بني عباد لمحمد مجيد السعيد ، وما شا بهها من الدراسات التي لا تزال قليلة نسبة إلى غيرها من الدراسات الأخرى .