التأكيد البلاغي ومقاماته في الحديث الشريف من خلال صحيح الإمام مسلم دراسة تطبيقية تحليلية /
اخترت هذا الموضوع لدوافع وأسباب عديدة ، أهمّها : 1- أن التأكيد خصوصيّة متميّزة من خصائص الكلام البليغ ؛ لما له من أهمّيّة واضحة في الإثبات القويّ للأفكار والمعاني المرادة ؛ بما لا يدع مجالاً لإنكارها أو الشّك فيها ، ومن ثمّ كثر مجيء التّأكيد في القرآن الكريم ، وفي حديث الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ، وفي كلام البلغاء والفصحاء ، فهو حريّ بالدّراسة والبحث ؛ بياناً لمقاماته ودواعيه ، وكشفاً عن أسراره ولطائفه البلاغيّة . 2-الرّغبة الصّادقة في إظهار جانب من جوانب البلاغة النّبوية السّامية ، حيث إنّ الدّراسات البلاغية حول الحديث الشّريف ما زالت قليلة ، ولا تتناسب مع ما تميّز به الرّسول صلى الله عليه وسلّم من الفصاحة والبلاغة ، الذي أوتي جوامع الكلم ، ومدّه الله بأسباب الفصاحة والبلاغة ، مما جعله متمكناً من وسيلة البيان على الوجه الأكمل . يقول الخطيب التبريزي : "" إن أشرف العلوم كلها علم الكتاب والسنة ، وهما قطبا كل علم ، وأصلا كل فهم ، إذ كانا طريقاً إلى معرفة الخالق تعالى ، وشكر نعمته ، وسبيلا إلى إدراك السعادة والفوز بجنته ، ولا يصح حقيقة معرفتهما إلا بعلم الإعراب الدال على الخطأ والصواب ، وعلم اللغة الموضحة عن حقيقة العبارات المُفصِحة عن المجاز والاستعارات ، وعلم الأشعار ، إذ كان يستشهد بها في كتاب الله عز وجل ، وفي غريب أخبار رسوله "" ( ). 3- اليقين بأن الدّراسات البلاغيّة لا تظهر قيمتها واضحة جليّة إلا من خلال التطبيق على النصوص البليغة ، ومن ثم اخترت جانب التطبيق على أحاديث أبلغ البشر ، وأفصح من نطق بالضاد ، الذي لا ينطق عن الهوى ، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة ، آملا أن تسهم هذه الدراسة في دفع ما يوجّه إلى البلاغة العربية من تهم باطلة ظالمة . يقول الدكتور محمد أبو موسى عن هذا النّهج في الدراسات البلاغية : "" وليس أجدى في البحث البلاغي من هذا الاتجاه ، وقد اتجهت بعض الدراسات الحديثة إلى ربط الدراسات الأدبية والنقدية المختلفة بالنص الأدبي ودورانها حوله ، وعرض القضايا والنظريات النقدية من خلال دراسة النص ، فليس هناك درس نظري في أمر من أمور الأدب والنقد ، ونأمل أن يكون لنا من تراثنا الخالد رائد صدق في تصحيح منهج دراستنا البلاغية ، التي لا أرى لها صلاحا إلا بالعودة إلى هذه الرّوافد والاهتداء بآثار هـذه القرائح الشّامخة ، والرّبط الوثيق بين الدراسة البلاغية والنص الأدبي ربطاً يقوم على النّظرة الجادّة "" ( ) . 4- من أهمّ ما دفعني لهذا البحث إضافةً لما سبق أنّ مادة هذا البحث تدور حول الحديث النبوي في كتاب من أصحّ كتب الصّحاح ، والمتأمِّل في الدراسات التي كُتبت حول البيان النبوي ، يجد غالب مؤلفيها يستشهدون بأحاديث ضعيفة ، وقد تكون موضوعة على النبي ، مما لا يعطي اطمئنانا إلى الخصائص البلاغية والنتائج المترتبة على ذلك ، لأن النصوص التي هي مناط البحث ومحل الخصائص غير صحيحة ، لذا فقد اعتمدت صحيح الإمام مسلم في هذه الدراسة لما عُرف عنه من دقّة وتحرٍّ في طرق الحديث ، واختيار الألفاظ والتّمييز بينها، فضلاً عمّا امتاز به من أنّه اختص بجمع طرق الحديث الواحد في مكان واحد بأسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة ، يقول الإمام ابن حجر : "" حصل لمسلمٍ في كتابه حظ عظيم مفرط ، لم يحصل لأحدٍ مثله ، بحيث إن بعض الناس كان يفضّله على ( صحيح محمد بن إسماعيل ) ، وذلك لما اختصّ به من جمع الطرق ، وجودة السياق ، والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي ، من غير تقطيع ولا رواية معنى"" ( ).