مراثي أبي تمام دراسة بلاغية نقدية /
فقد وقفنا بإيجاز عند محطات من حياة أبي تمام وعلاقته بمن رثاهم، وبيّنا صدق علاقته بالموت، ثم بالشخصيات، وعرجنا على أغراضه الشعرية التي تميزت بالتأمل والفن والحكمة، ثم درسنا ألفاظه من حيث القيم الصوتية والدلالية والقيم المعرفية والفنية، فدرسنا الإيقاع والإيحاء والرقة والجزالة والغرابة والوضوح ثم بعد ذلك وقفنا عند تركيب الجملة وسمات المعنى الفنية، فدرسنا الجُمل الخبرية والجمل الإنشائية، ثم الاسمية، ثم الفعلية، ثم التقديم والتأخير، ثم الكلام حين يخرج عن مقتضاه الظاهر، وبعدها فنون القصر والوصل والفصل، ثم الإيجاز والإطناب، واتجهنا إلى المباحث البلاغية في فنون البيان المثيرة للجدل من تشبيه ومجاز واستعارة وكناية، بعدها فنون البديع الذي يعد جزءاً كبيراً من التهمة الموجهة لشاعرنا، وعجبنا بعد الإحصاء أن يكون الطباق أكثر بكثير من الجناس في شعره، حتى إن المقارنة تكاد تكون بعيدة بينهما، بعد ذلك درسنا من خلال الرؤية النقدية القضايا التي أثارها شعره وتاريخه الأدبي من قضايا بلاغية نقدية كبراعة المطلع وحُسن المقطع والطبع والصنعة، وكيف وجدنا أنه شاعر يخفي جمال طبعه ببراعة صنعته، ثم درسنا الوضوح والغموض وأدركنا أن ذلك يتم بعد توظيفه للصور والألفاظ توظيفاً خاصاً بيّناه في البحث، ثم درسنا عاطفة الصدق عنده فوجدناه صادقاً فنياً وصادقاً موضوعياً لولا أن الخيال والتصوير يدفعان الشاعر لفتح السقوف التي تريد عزل الشاعر عن الهواء، ثم درسنا التجديد في بناء القصيدة من خلال مراثيه وكانت الرحلة مع عمود الشعر التي صحبنا من خلالها ثلاثة من كبار النقاد في العربية، ثم اتجهنا إلى التطبيق والتحليل من خلال دراسة الألوان البديعية في مراثيه ودرجة كثافتها. وتصدينا لكثير من القضايا أهمها عربية وإسلامية أبي تمام من عدمها، وذكرنا أن ذلك قد يكون من قبيل الحسد والغيرة، وأما عن طغيان فن المديح على أغراض شعره فقد ذكرنا أنه يُغذي فن الرثاء وقد بيّنا آراء قدامة وابن رشيق وغيرهما في قضية عدم التفريق بين المدح والرثاء، ثم بيّنا أن شعر المناسبات ليس كما يُقال ويُتهم به من ضعف، لأن أكبر وأكثر شعراء العربية كانت معظم قصائدهم الخالدة من شعر المناسبات، وأما تعصب بعض اللغويين عليه فهذا مدرك لأنهم حراس على بوابة اللغة، لا يسمحون بالتجاوزات وإن كانت من أجل الفن والتجديد، وأما بعض النقاد الذين هاجموه فلأحد سببين: إما لعدم تواصلهم معه وفهمهم لمعانيه. أو لولائهم المطلق للشعر القديم. ولعل أكثر ما أثير حول شعره لا يعدو أن يكون زوبعة وإثارة للغبار حول شاعريته حتى أتى عليها وابل فنه. وأستطيع أن أبرز أهم النتائج في النقاط التالية: 1 - أعطيت عناية خاصة في مواضع كثيرة من مراثي أبي تمام للأسلوب عند التحليل متجاوزاً عناية أكثر البلاغيين بالكلمة أو الجملة أو الصورة البيانية، كما مزجت آراء بعض النقاد القدامى بآراء بعض النقاد المعاصرين وإن كانت مستمدة في بعضها من ثقافتهم الوافدة، ليس انبهاراً بها وإنما لأن (من يقرن مباحث البلاغة العربية إلى مباحث البلاغة الغربية يلاحظ تواً أن الغربيين عنوا في بلاغتهم بدراسة الأساليب، والفنون الأدبية، بينما لم يكن يعنى بهذه الجوانب أسلافنا)(1)، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها 2 - رغم أن كتاب الموازنة للآمدي يُعد من أفضل كُتب النقد بصفته دراسة تطبيقية للاستعارات والصور البيانية في شعر أبي تمام والبحتري، إلا أنه لم ينصف أبا تمام «فيما أرى» وكأنه أراد أن ينتصف للغويين الذين كانوا يرفضون التجديد في شعر أبي تمام ولذلك انتصرت له بناءً على حقه المشروع في التجريب والتطوير. وأنصفته في مواضع كثيرة من هذا البحث، مبيناً بعض لفتاته البارعة، وحسه المرهف، ودقته العقلية كما كشفت عن قيمه البيانية ودلالاته النفسية. 3 - قد أتوسع أحياناً في الاستدلال بآراء بعض النقاد المعاصرين البارزين، وإن كنت أختلف مع بعضهم، كما لم أغفل الرجوع إلى مدرسة السكاكي والخطيب في ضبط المصطلحات البلاغية وتحديد دلالتها رغم ما في الرجوع إلى هذه المدرسة من صعوبات. 4 - هذه الصعوبات قد لا تفوق ما يلاقيه الباحث في شعر أبي تمام من تعدد أفهام الشراح واختلافهم، بالنظر إلى طبيعة شعره الذي امتزجت به المباحث المنطقية والفلسفية والدلالات الرمزية. 5 - لعلي أكون قد أسهمت قدر الإمكان في محاولة تطوير بحثنا البلاغي والنقدي في شكله ومضمونه، وذلك بمزج آراء القدماء بآراء المعاصرين، وتحري الدقة في الأحكام، غير خاضع لطوق التقليد في البحث، منصرفاً عن إيضاح الواضح وتكرار الأقوال من غير مناقشة أو تحليل. 6 - لا أخفي أنني انتصرت في مواضع كثيرة لأبي تمام وخاصة على من تعصب عليه من بعض اللغويين بسبب مظاهر التجديد في شعره أو ما قيل عن محاولته هدم عمود الشعر، مبيناً أنه يمكن أن يكون مرد ذلك عند بعضهم إلى عدم فهم شعره، إذ أن (اللغويين والنحاة وفي مقدمتهم: ابن قتيبة والمبرد وثعلب ينشطون على ضوء سابقيهم في تصنيف كتب يفسحون منها للملاحظات البلاغية غير أنهم لم يضيفوا شيئاً مهما.