أحكام نقل أعضاء الإنسان في الفقه الإسلامي :
فإن شريعةَ الله حاكمةٌ في جميع أمور الحياة ، فما من شيء متعلق بأفعال المكلفين إلا وله حكم في شريعة الإسلام ، ولم يزل فقهاء الإسلام يولون المسائل الفقهية المستجدة بالعناية بحثاً وتحريراً ، وفي وقتنا المعاصر كثرت المسائل المستجدة بعدد كبير جداً ، واستمر أهل العلم المعاصرون في بحثها من خلال المجامع والهيئات الفقهية ، والأقسام الفقهية في الكليات الشرعية في بحوث التخصص العليا ( الماجستير والدكتوراه ) ، وأطلق على دراسة المسائل المستجدة (فقه النوازل ) . ويأتي هذا البحث وفق هذا النسق في بحث نازلة من النوازل الطبية ( نقل أعضاء الإنسان في الفقه الإسلامي ) ويسمى هذا الموضوع بزراعة الأعضاء ، وغرس الأعضاء . ويتبادر إلى ذهن كثير من الناس حينما يذكر موضوع زراعة الأعضاء : نقل القلب والكبد والكلى . والحقيقة أن الموضوع أوسع من هذا التصور بكثير ، فكثير من الأمراض يعالجها الأطباء بنقل الأعضاء ؛ كزراعة النخاع ، والدم ، والعظام ، والجلد ، وقرنية العين ، والصمامات القلبية ، والأعضاء التناسلية .. وهي أنواع كذلك فمنها ما يكون النقل فيها من الموتى ، ومنها ما يكون من الأحياء ، ومنها ما يكون من المريض نفسه . وقد بدأت عمليات نقل أعضاء الإنسان بالنجاح منذ ثلاثين سنة تقريباً، و الأبحاث والدراسات الطبية في ازدياد من أجل تحقيق أعلى درجات النجاح .والمرضى الذين يقف علاجهم على نقل عضو إليهم كثيرون جداً ، ولا يكاد أن يخلو أي مستشفى كبير منهم . ومن القضايا الأساسية التي شغلت مساحةً كبيرة من المجلات الطبية المتخصصة المحكمة : موضوع الميت دماغياً ؛ لأنه أهم مصادر الأعضاء التي يمكن نقلها إلى المحتاجين إليها . وانسحب هذا الاهتمام أيضاً إلى الفقهاء الباحثين ، ولم يزل موضوع موت الدماغ يكتنفه جانب كبير من الغموض ، مما حدا ببعض الباحثين إلى تنزيل الحكم فيه على قواعد الاحتياط في الدين . وربما حصل التعجل من آخرين بناءً على تصور غير دقيق ، والذمة لا تبرأ بذلك ، وموضوع بهذه المثابة فإنه يحتل درجة عالية من الأهمية . وقد مررت أثناء بحثي في معرفة التصور الطبي لهذا الموضوع بمرحلتين : المرحلة الأولى : كانت من خلال أخذ التصور الطبي من الكتب والبحوث التي أعدها الأطباء باللغة العربية . ثم تبين لي بعد أمد أن هذه البحوث لم تكتب لأهل الاختصاص الطبي ، ولا تعتبر بحوثاً معتمدة لدى الأطباء ، وأنها إنما كتبت غالباً لمخاطبة غير المختصين ، فلا يلحظ فيها جانب الدقة الطبية ، وربما أغفلت فيها جوانب مهمة في الموضوع ظناً منهم أن غير المختص ليس بحاجة أن يعرف مثل هذه التفاصيل أو أنها غير مؤثرة لدى الفقهاء في معرفة الحكم الفقهي . وقد تبينت لي هذه الحقيقة بعد قيامي بالرحلة الميدانية الأولى إلى المستشفيات والتي استمرت ثمانية أيام . وقد قمت بهذه الرحلة بناءً على مشورة المشرف الطبي - وفقه الله - وكنت حينها قد انتهيت من جزء كبير من موضوع الموت الدماغي ، فلما بدأت بالرحلة وشاهدت بعض حالات الموت الدماغي ، وحضرت تشخيص حالة واحدة ، تبين لي أن ما كتبته في البحث ناقص وغير دقيق ، وكان أول إشكال تبدى لي هو ثبات حرارة الميت دماغياً الذي حكم عليه بالوفاة الدماغية منذ ساعات على ( 37 درجة مئوية ) ولما طرحت هذا السؤال على الطبيب الذي شخص الحالة لم أجد جواباً . انتقلت بعدها إلى مستشفى آخر وشاهدت حينها تشخيص الطبيب المختص لحالة موت دماغي ، ووقَّع الطبيب أمامي بوفاته دماغياً ، وكانت حرارته ثابتة ( 37.2 درجة مئوية ) فطرحت عليه السؤال نفسه ، ولم أجد إجابة كذلك . لقد كنت أتصور أن الميت دماغياً ينبض قلبه بفعل جهاز خاص يحرك القلب ، ولكن تبين لي أن القلب ينبض بذاته ما دام أن الدم يتغذى بالأكسجين ، وربما احتاج إلى بعض الأدوية . ولم أكن أعلم أن الميت دماغياً يتبول ، ويتغوط ، ويتعرق ، وقد يتحرك .. . وحينها أدركت أني بحاجة إلى تغيير طريقة البحث من أجل تحقيق الدقة في التصور الطبي . فقمت لأجل ذلك بثلاثة أمور : أولاً : القيام برحلة ميدانية في المستشفيات الكبرى في الرياض ( مستشفى الملك فيصل التخصصي ، ومستشفى الملك فهد بالحرس الوطني ، والمستشفى العسكري ، ومركز الأمير سلطان لزراعة القلب ، ومستشفى قوى الأمن ، ومستشفى الملك خالد الجامعي ، ومجمع الرياض الطبي .. ) التقيت خلالها بكثير من الأطباء والمرضى ، وشاهدت عدداً من حالات الموت الدماغي : التشخيص ، و مرافقة المنسقين في إقناع أقارب الميت دماغياً من أجل التبرع بأعضائه ، و شاهدت عملية استئصال أعضائه ، و رفع الأجهزة عن الميت دماغياً بعد رفض أهله التبرع بأعضائه . ودخلت تسع عمليات ، كان أطولها في زراعة كبد من ميت دماغياً ، وبقيت فيها ثماني ساعات ونصف . وسيأتي تفاصيل ذلك في ثنايا البحث إن شاء الله تعالى . ثانياً : أعددت استبانة عن موضوع الموت الدماغي ، لتعبئتها من قبل الاستشاريين الذين لهم صلة قريبة بالموت الدماغي . ثالثاً : الرجوع إلى المراجع الطبية المعتمدة عند الأطباء ؛ من الكتب والمجلات الطبية العالمية المحكمة ، وخصوصاً في نتائج الدراسات والأبحاث . لقد لاقيت في تحقيق هذه الأمور الثلاثة صعوبات بالغة واستنزافاً كبيراً للوقت ، في جانب الترجمة ، والحصول على المواطن المرادة من المجلات الطبية المحكمة ، وغير ذلك .