اتجاهات كتابة السيرة النبوية في المشرق الإسلامي خلال القرن السادس الهجري
إن المتتبع للتأليف في السيرة النبوية يجد أنها قد حظيت باهتمام علماء الأمة منذ القرون الأولى، وذلك بتدوين الروايات الخاصة بسيرة الرسول ومغازيه، وقد نشأ ذلك الاهتمام من اهتمامهم بالسنة النبوية، فسيرته جزء من سنته، وفيها الأحكام والتشريعات، والأسوة الحسنة التي ينبغي للمسلم التأسي بها بنص القرآن الكريم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( )، ولهذا اعتنى المسلمون على اختلاف مشاربهم بدراسة السيرة النبوية المطهرة، وعلموها لأبنائهم، كما كانوا يعلمونهم سور القرآن الكريم، وهى تُعَدُّ حلقة أساسية من حلقات التاريخ الإسلامي، بل هي القاعدة واللبنة الأولى في بناء هذا التاريخ. وفي كل مرحلة من تاريخ الأمة، وفى كل إقليم نشطت فيه حركة العلم، كان هناك اهتمام بسيرته ، أدى ذلك بالتدريج إلى ظهور اتجاهات ومناهج مختلفة، ونظرات ورؤى متنوعة، فكل قارئ لسيرته يجد فيها من جوانب الإعجاز النبوي ما يريده، وستظل معيناً لا ينضب مهما كثر عليه الواردون، ونهل من نبعه الناهلون. وفى المشرق الإسلامي ظهر الاهتمام بسيرته ، واستمر هذا الاهتمام عبر القرون، إلى جانب مجالات التاريخ الأخرى، كالتواريخ المحلية للبلدان، وذيول كتب التاريخ العام، وتاريخ الدول وتراجم الرجال، والطبقات، فكانت السيرة أحد المجالات التي كتب فيها العلماء في المشرق الإسلامي؛ لا سيما في القرن السادس الهجري الذي تميز عن غيره من القرون بظهور مصنفات عديدة للسيرة النبوية في مختلف ميادينها، كما تميزت البيئة المشرقية في القرن السادس بتعدد الاتجاهات الفكرية والعقدية، فانعكس ذلك على كتابة السيرة؛ حيث اعتنى كل اتجاه بالسيرة النبوية، فجاءت كتاباتهم تعبيراً عن توجهاتهم الخاصة لثقتهم بمدى فاعلية السيرة النبوية في نفوس الناس، وتأثيرها السريع على قناعاتهم الفكرية، كذلك واجه مؤرخو السيرة في المشرق تيارات فكرية وثقافية - رغم ضآلتها - إلا أنها أخذت تروج لسير ملوك الفرس وعظمائهم أمام الناس باعتبارهم نماذج وقدوات يتأسى بهم، فكانت الكتابة في سيرة الرسول تعبيراً عن رفض ذلك الاتجاه. كذلك أيضاً واجه مؤرخ السيرة في المشرق - في هذا القرن- مجموعة من التحديات السياسية والاجتماعية التي تعززت فيما بعد ذلك من القرون، فانعكست تلك على كتابة السيرة، فقد دفعت تلك الأخطار المؤرخين المسلمين، إلى الرجوع لسيرة النبي ، لرفع معنوية الأمة، و لتخفيف معاناتها. إن الدارس المتأمل يرى جهوداً مبذولة لأهل السنة من جهة، والفرق في هذا القرن من جهة أخرى، كالشيعة ((الإمامية))، والصوفية، وأهل الكلام في كتابة السيرة، ولكل من هذه الاتجاهات منهج خاص في تلقي السيرة النبوية، وعرض أحداثها، ولهذا الواقع الذي تميزت به كتابة السيرة النبوية في المشرق في هذا القرن كان من الأسباب التي شجعتني لاختيار هذا الموضوع، والكتابة فيه- بعد توفيق الله تعالى - ومن أجل ما اتضح لي من أهميته و حاجته إلى الدراسة والبحث، وجـِدَّتِهِ إذ لم يسبق تناوله بهذا الإطار المقدم، ولا توجد دراسة سابقة تناولت هذا الموضوع، مع وفرة الكتب والمصنفات التي تنتمي إلى تلك الفترة الزمنية المذكورة، وفي منطقة الدراسة. إضافة إلى عوامل أخرى منها: - إلقاء الضوء على فترة من فترات التاريخ الإسلامي في الجانب العلمي والفكري، وإظهار النتاج العلمي الذي خلفه كتاب السيرة في هذا القرن، الذي يعد حقيقة ثروة عظيمة للمكتبة ا لإسلامية. ــ محاولة رصد ما كتب عن السيرة النبوية في القرن السادس الهجري في المشرق، وذلك إكمالاً لجهود سابقة بُذِلت وتتبعت تاريخ كتابة السيرة و التأليف فيها. ــ معرفة اتجاهات التأليف في السيرة النبوية خلال القرن السادس الهجري في المشرق الإسلامي. ــ إن دراسة الاتجاهات و المناهج التي تقوم على الاستقراء والتحليل والاستنتاج، تكاد تكون قليلة بالمقارنة بغيرها من الموضوعات العامة والخاصة في التاريخ التي تحظى بإقبال عدد كبير من الباحثين والدارسين، وذلك لوفرة مصادرها، ولسهولة البحث فيها، ولذلك فإن دراسة مناهج كُتَّاب السيرة النبوية، ومعرفة خلفيات كتاباتهم تكتسب قدراً كبيراً من الأهمية. ــ إن تتبع مسيرة التأليف في السيرة النبوية التي هي أصل في فهم الإسلام من المتطلبات التي ينبغي أن تولى العناية والأهمية، فهذا بالطبع يعكس مدى عناية الأمة وصلتها بنبيها الكريم عليه الصلاة والسلام. ــ إن هذا النوع من الدراسة نوع من العمل الجاد المفيد الذي يضفي الشيء الكثير على المكتبة الإسلامية، لا سيما في إبراز جهود كُتَّاب السيرة النبوية في المشرق الإسلامي، والذي غلب على أكثرهم التمكن فى فنون أخرى، وربما حجب الناس عن معرفة جهودهم وآثارهم ما ساد من نظرة غير صائبة، تَرى أن تلك البيئة أي إقليم المشرق الإسلامي أضحى بيئة يغلب عليها التشيع، والشعوبية والقومية الفارسية بعد القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الفتح الإسلامي، والواقع أن أهل السنة كان لهم وجود وتأثير قوي في القرن السادس الهجري، وكانت اللغة العربية هي لغة الدرس الشرعي، ولغة التأليف الأولى، وكان من معطيات التأليف باللغة العربية في هذا القرن مؤلفات السيرة النبوية.