ضمان الأضرار المتعلقة بالتقاضي وتطبيقاته القضائية
إن من سنن الله ـ تعالى ـ في هذه الحياة الدنيا أنْ خلق الناس، وفطرهم على السعي فيها، وتعاملهم فيما بينهم، وإن مما لا يسلم منه كثير منهم التنازعُ مع بعضهم البعض، وذلك يُلْجئهم إلى ولوج باب القضاء والرغبة في قطع النـزاع. والولوج في هذا الباب يتطلَّب أعمالاً كثيرة وخطوات متعدِّدة على القاضي، وأعوانه، والمتخاصمين، ومن له شأن في القضيَّة، وقد يطول وقت ذلك أو يقصر. وإن مما لا مرية فيه ولاشكَّ أنْ يحصل الخطأ والزلل ـ بسبب التقاضي ـ من أيِّ طرفٍ من الأطراف الذين لهم صلة به من قريب أو بعيد، وقد يوجب ذلك ضرراً على مَنْ وقع عليه. ومن هنا بدأت فكرة هذا البحث خاصَّةً في هذا الزمن الذي كَثُرَ فيه التقاضي، وصعبت فيه القضايا، وتعدَّد فيه من له صلةٌ به. ولهذا فإنني في هذا البحث أتناول الأضرار التي تتعلَّق بالتقاضي والواجب فيها. وسمَّيته: «ضمان الأضرار المتعلِّقة بالتقاضي وتطبيقاته القضائيَّة». وتأتي أهميَّة هذا الموضوع من جهة تعلُّقه بالقضاء الذي هو «من أجلّ العلوم قدراً، وأعزّها مكاناً، وأشرفها ذكراً؛ لأنه مقامٌ عليٌّ، ومنصبٌ نبويّ، به الدماء تعصمُ وتسفح، والأبضاع تحرمُ وتنكح، والأموال يثبت ملكها ويسلب، والمعاملات يعلم ما يجوز منها ويحرم ويكره ويندب»( )، «فطرقُ العلم به خفيَّة المسارب، مخوفة العواقب، والحجاج التي يفصل بها الأحكام مَهَامِهُ يحار فيها القطا، وتقصر فيها الخُطَا»( )، وهو أعظم السُّبُل الشرعيَّة للحصولِ على الحقوق، وقطعِ المنازعات، وإنهاء الخصومات. ثُمَّ إن الضرر في الشريعة ممنوع، وإذا وقع فهو مرفوع، وسند ذلك: قول النبي : «لا ضرر ولا ضرار»( )، ويزداد الضرر خطراً إذا كان متعلِّقاً بسبيل إيصال الحقوق والطريق المشروع لإقامة العدل في الأرض ـ وهو التقاضي ـ، فكيف يكون التقاضي سبباً في وقوع الضرر وجلبه؟!. إن القضاء عملٌ بشريٌّ، الخصمان والقاضي والأعوان بَشَرٌ يخطئون، وهم محلّ الخطأ والزلل، وقد أخطأ مَنْ هو مِنْ صفوة الناس وخيرهم ـ داود عليه السلام ـ؛ إذ بيَّن الله ذلك بقوله: ﴿وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنَّا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً﴾( )، وإذا وقع هذا من القاضي فوقوعه من غيره ممن له صلة في الخصومة غيرُ بعيد. ومما تجب الإشارة إليه والتنبيه عليه أن الحقوق محفوظة ومصونة ـ وإن وقعت فيما له تعلّق بالتقاضي ـ؛ لأن وقوعها في هذا المجال الذي هو سبيل ردّ الحقوق والمظالم يؤكِّد ضمان الحقوق والأضرار فيما يحصل فيها وبسببها. أسباب اختيار الموضوع: لقد اخترت هذا الموضوع والكتابةَ فيه بحثاً تكميليًّا للأسباب التالية: 1ـ تعلّق هذا الموضوع بالتقاضي الذي هو سبيل فصل النـزاع وقطع الخصومات وإقامة العدل، ومن أجل إقامة العدل بُعِثتْ الرسل وأُنْزلت الكتب: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾( ). 2ـ أن القضاء مشروع لدفع الضرر ورفعه، ومنع النـزاع وقطعه، فمن بابٍ أولى ألاَّ يكون القضاء الذي هو سبيل حفظ الحقوق سبباً في ضياع بعض الحقوق وفواتها. 3ـ كثرة السؤال عن ضمان ما يحصل بسبب التقاضي من خسران الدعوى، أو فوات بعض المنافع والمصالح، أو ضمان النفقات التي تكون بسبب الخصومة. 4ـ تعقّد إجراءات التقاضي، وطول أَمَدِ الخصومات في هذا الزمان الذي ساءت فيه أحوال الناس، وتعدّدت الجهات والأشخاص الذين لهم اتّصال بالقضيَّةِ وأطرافِ الخصومة، مما يوجب حقًّا للقاضي والمترافعين والأعوان ومن احتيج إليه في الخصومة أو يوجبه عليهم. 5ـ تخصّص المعهد العالي للقضاء بقسميه ـ الفقه المقارن خاصة، والسياسة الشرعية ـ في الدراسات القضائية والأبحاث الشرعية، واهتمامه بما يخدم جهاز القضاء الشرعي، ويساعد في الرقي بالقضاء السعودي. 6ـ قلة المؤلفات والرسائل العلميَّة في ضمان أضرار التقـاضي، بل إني لا أعلـم مؤلفاً مفرداً في هذا الموضوع خاصَّة( )، وما وُجِد من ذلك فهو في باب واحدٍ، كضمان الأضرار المتعلقة بالقاضي فقط ـ مثلاً ـ، ولهذا فإنك تجد موضوعاته متفرِّقة في أبواب الفقه بدءً بأبواب المعاملات فما بعدها. 7ـ تناثر مفردات هذا البحث في أبوابٍ متعدِّدة من الفقه، وبعضها قد لا يمكن إدراكه إلا بالتخريج الفقهي، وفي عملي جمع لمتفرق، وترتيب لمختلط، وذلك من الأغراض المعتدّ بها في البحث.